"عيب يتحدى الكمال" قصة قصيرة





صوت خطوات قادم من الفناء، الباب يُفتح بقوة مع ضحكة انتصار عالية وأحيانًا تُغني أغنية مع معرفتها بأن صوتها حاد جدًا ولا يؤهلها حتى لقراءة نص في إذاعة مدرسية. هذه رغد فتاة مشاغبة ومهذبة تتجمع فيها كل تناقضات العالم ، واثقة وخجولة ومتفوقة وتهرب من المدرسة أحيانًا.
رغد تعيش في مدينة صغيرة المساحة ولكن ترى العالم كله فيها لأنها لا تتوقف عن اكتشافها.  كانت في الصف الرابع طفلة نابضة بالحياة، لا تعرف الملل ، لأنها وببساطة تخترع نشاط من اللاشيء حتى أحيانًا تجدها تمشي فوق الجدران لأنها ملّت من المشي على الأرض. كانت تقرأ وتكتب وتلقي في الإذاعة المدرسية مع صغر سنها ، كانت الابنة البارة لمدرستها، ولأنها تعيش في مزرعة، لا تأتيها الحافلة  كل يوم،  مرة بسبب تجمع مياه الأمطار ومرة أخرى بسبب أعمال الطريق. وبالطبع لا تستلم للأمر فتشق طريقها ركضًا للمدرسة، لا تريد أن يفوتها شيء أبدًا، فالمدرسة هي نافذتها ومنفذها الوحيد للعالم . كانت رغد تعاني من صغرها من لثغة في الكلام فلا تكون قادرة على نطق بعض الأحرف بطريقة صحيحة ولكن لصغر سنها لم تعر الأمر أي انتباه فهي صغيرة ومرحة وقوية الشخصية ولديها صفات حسنة كثيرة تجعلها تنسى لثغتها.
ولكن عندما بلغت الحادية عشر شعرت نوعًا ما بتجاهل مدرستها لها ، لم تعد تشارك بكثرة في الإذاعة و لم تعد تلقي في البرامج المدرسية. في تلك الفترة وضحت لثغة رغد بقوة فهي لم تعد صغيرة كباقي الأطفال الذي تكون لثغتهم متوقعة لصغر سنهم. كانت تريد أن تسأل عن السبب ولكن كانت تخاف من الإجابة لأنها شعرت أن لثغتها هي السبب، فبعد أن كانت الابنة البارة للمدرسة ، أصبحت وبطريقة ما الابنة العاقة التي يخجلون منها.
بعد أن كانت تصحو لتركض لمدرستها، أصبحت تصحو وهي مثقلة، أُنهكت روح رغد مرارًا وتكرارًا بسبب تجاهلها. المدرسة في السابق كانت نافذتها ومنفذها للعالم ولكن طُمست هذه النافذة . كان عزائها الوحيد في المدرسة حصص التعبير لأنها تشعر وبطريقة ما بأن كتاباتها تذاكر عبور للعالم من حولها، تذاكر عودة لشخصيتها المرحة والمجنونة، لصدى ضحكاتها المدوي .كانت مفوهة وتجيد التحدث ولكن كانت تكره لثغتها حتى انعكس ذلك على شخصيتها. كانت رغد تشعر بأنها عادية جدًا وأن قدرتها الكتابية عادية أيضًا. على الرغم من عدم تقديرها لموهبتها، يخالطها إحساس بين الحين والآخر أنه يجب عليها أن تظهر ما عندها ولكن تخاف من إظهار موهبتها للعلن لأنها لا تريد أن تعيش تجربة أن يتم تجاهلها مرة أخرى، لا تريد أن تموت مرة ثانية .فهي تعرف أن التجاهل كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ودفع "فيرجينا وولف" للانتحار ودفع العاصي أحد طلاب "طه حسين" للانتحار حرقًا. دست رغد موهبتها ولم تظهرها أبدًا، المدرسة التي ترتادها لا تشجع على اظهار ما عندها، الدروس مملة، المعلمات مشغولات بالاختبارات وبالدرجات. تشعر رغد كل صباح بأنها تذهب لمصنع لحشو العقول، الجميع يركض ومشغول والحصص كثيرة صوت الجرس مؤذي للسمع، كل شيء يقول لها لا مكان لموهبتك في هذا المصنع. استسلمت لقدرها ونست موهبتها أو بالأحرى تناستها. شيئًا فشيئًا فقدت احترامها لنفسها، كانت عالقة في الماضي وتلوم نفسها على تبدل حالها، فبعد أن كانت شعلة أصبحت كومة رماد.
ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، كانت رغد لا تظهر الاحترام الكافي لمن حولها. تتجاهل من يستحق الاهتمام ولا تساعد من يحتاج المساعدة لأنها عندما كانت بحاجة الاهتمام والمساعدة لم يتم منحها إياها، فكيف تعطي شيء وهي لا تمتلكه! أعلنت الحرب والسخط على الجميع ،مثل السلطان المتخبط الذي يعاقب الجميع وهو لا يعلم لماذا يعاقبهم.
 في إحدى السنوات الدراسية وفي خضم نسيانها لموهبتها، جاءت معلمة جديدة تُدرّس مادة التعبير. شعرت رغد وبطريقة ما أن هذه المعلمة الجديدة رسالة إلهية لها لإحياء موهبتها المختبئة داخلها. كانت هذه المعلمة صارمة قليلة التبسٌم ومع الوقت أحست المعلمة أن رغد تمتلك موهبة حقيقية. لم تخبر المعلمة رغد مباشرة بموهبتها، كانت تتبادل معها نظرات الإعجاب ونظرات الدهشة عند قراءتها لنص ما. رغد تعشق لغة العيون وتثق بها لأنها اصدق لغة واكثرها عمقًا، "وإذا العيون تحدثت بلغاتها، قالت مقالًا لم يقله خطيبًا" هذه المقولة تصف العلاقة بين رغد ومعلمتها. كانت المعلمة تكثر التمارين الكتابية ولكن لم تتذمر ولو لمرة واحدة من كثرتها، لأنها أثارت البراكين الخامدة داخلها وحررتها من لهيب نيرانها. لو لم ترد التغيير لن تتغير حتى وإن تم اجبارها على ذلك ، معلمتها كانت السبب والشرارة التي انقذتها من غياهب الجب . ولأنها تحن للماضي، ولأنها غارقة في انستلوجيتها، أرادت أن تعود لشخصيتها القديمة.
بدت الحياة تتسلل داخل رغد شيئًا فشيئًا، مثل المريض الذي تظهر عليه علامات الشفاء وتدب فيه الحياة من جديد،. دخلت رغد المرحلة الثانوية وانتقلت لمدرسة أخرى، لم تفرق مدرستها الثانوية عن مدرستها السابقة ولكن على الأقل تخلصت من جدرانها التي تذكرها كيف كانت وكيف أصبحت. زادت تعلقًا بالكتابة، تقول رغد:  شعور الرغبة في الكتابة يشبه شعور العطش والظمأ وأنا لا أقاوم العطش. على الرغم من موهبتها وتميزها، كانت لا تعر الأمر انتباه كافي ففي نظرها الجميع يكتب وينشر ولديه العديد من الكتب، لم تتشاف كليًا من المواقف التي صاحبتها منذ الصغر، لا تريد أن تتواجد في بقعة الضوء ثم يسلب منها كل شيء مرة أخرى. بالإضافة إلى أن لثغتها تعيقها من نشر ما عندها، الجميع سيسألها وستكون مجبرة على الحديث، سينظر لها بنظرات شفقة وهي تفضل الموت على أن يرمقها أحد بهذه النظرات. كانت تكتب ولا تشارك ما عندها، لم يأتِ أحد كمعلمتها السابقة ويجبرها على الكتابة ولو حتى دراسيًا.
 انقضت المرحلة الثانوية وتخرجت رغد. قلبها معلقًا باللغة العربية تخصصًا وكتابة وقراءة، فهو قبل كل شيء شغفها ومنقذها في الأيام الصعبة. ترددت في الاختيار قليلًا ولكن كان محيطها أقوى منها كعادته. استجابت ورضخت للضغوط واختارت تخصص علميًا، لأنها متفوقة ومن غير الطبيعي اختيار تخصص أدبي. كانوا ينظرون إلى الأمر من ناحية مادية بحتة، وهذا غير مستغرب بالنسبة لها لأنهم جميعًا خريجي مصانع حشو العقول. استجابت رغد وتناست رأيها وموقفها وفوق ذلك كله شغفها. دست نفسها مجددًا وانصهرت في محيطها وبدأت علامات فقدانها لذاتها مجددًا بالظهور. 


بدأت المرحلة الجامعية وتحررت رغد أكثر، فالجامعة بطبيعة الحال تمنحك مزيدًا من الحرية. ولكن عندما كانت تتخيل حياتها ما بعد التخرج، لا تجد نفسها في مختبرات الكيمياء أو شرح الجدول الدوري لأحدهم، كانت ترى نفسها تكتب وتنشر وتقرأ. تجاهلت هذا الشعور مرة أخرى. مرت الأيام وهي تنافس الآلة الكاتبة في تفريغ ما تحفظه على الورق، وذاكرتها تنافس ذاكرة الجهاز في حفظ المعلومات. ليست هذه الحياة التي تريد أن تعيشها ، وصلت لمرحلة طفح الكيل، شعرت أنه يجب عليها أن تتمرد على ذاتها وتحترمها وتروي ظمأها. كانت تقرأ عن المقاومة والصبر والتحمل وعدم الاستسلام، ولكن أيقنت أن ارتداء درع المحارب وقناع الفارس في طريق مجهول لا يعني أنك تقاوم وتحارب ، ربما يكون الاستسلام والتراجع وتغيير الطريق نجاة لها. وفي خضم حيرتها وضعفها، سمعت مرة كلمة من إحدى صديقاتها "انفذوا بجلدكم" أثناء حديثهن عن تخصصهن.  شعرت رغد بأنها رسالة إلهية أخرى، معلمة المرحلة المتوسطة ومن ثم صديقتها وفشلها في تقبل تخصصها الحالي. في لحظة جنون  زجت رغد بجميع أوراقها المخبئة ولملمت شتاتها وطلبت تغيير التخصص بدون اخبار أحد فالجميع سيعارض ما الجديد؟ استمرت  في انتقاد من حولها والتقليل من شأنهم وتكشر عن أنيابها كلما سنحت لها الفرصة في نقاش أو حديث ما، لازالت تلقي اللوم عليهم حتى يخف شعورها بتأنيب الضمير.
قُبل طلبها وانتقلت لجامعة أخرى، بدأت تتنفس الأمل والشغف. لم تتحسر ولا للحظة واحدة على حياتها السابقة لأنها حولت منها شخصًا آخر، فالمواقف التي مرت بها نحتت شخصيتها. تلاقت رغد مع نفسها بعد فراق دام 10 سنوات، لثغتها خفت بشكل واضح وتقبلتها، تدرس تخصصها الذي لطالما حلمت به ، كافأتها الحياة بعد هذه السنين. قطعت رغد وعد على نفسها بأن تهتم بها، كانت تعلم في قرارة نفسها أنها هي المسؤولة فقط عن تغيير حياتها والمضي قدمًا في هذه الحياة ولا تحمل أي شخص آخر مسؤولية تغيير حياتها ،فتوقفت عن انتظار شخص مثل معلمتها ليُظهر ما لديها .
في أثناء استمتاعها بدراستها، رأت إعلان عن مسابقة وطنية في مجال الكتابة الإبداعية، ترددت قليلًا في المشاركة ولكن تذكرت الوعد الذي قطعت على نفسها بأن تهتم بها وتروي ظمأ ذاتها، كانت تشتاق للحظات الانتصار فآخر عهدها بها قبل عشر سنوات. كتبت رغد قصة مؤثرة مستوحاة من حياتها ، فيها ألف شعور وألف معنى وألف قصة وألف رمز، غيرت في أحداثها حتى لا يقبض عليها مُتلبسة وهي تعترف بجميع بمشاعرها. الكتابة بوح للأسرار ومن أول وهلة وقراءة لكتابة شخص ما، تعرف أنه يقصد نفسه.  اجتازت جميع المراحل وظهر اسمها في التحكيم النهائي، لم تُصدّق عيناها! فتاة من مدينة صغيرة بين جبال وصحاري ،تنافس أشخاص يكتبون وينشرون منذ نعومة أظفارهم. في لحظة خوف تملك رغد شعور بالهرب لآخر الكرة الأرضية والعيش مع قبائل الأزتك المكسيكية أو شعب الماوري النيوزلندي على أن تواجه الجمهور ولجان التحكيم. ولكن تذكرت أنها تهرب من 10 سنوات وسألت نفسها سؤال:  ألم يحن الوقت للاستقرار؟ تذكرت أنها تجاوزت لثغتها وتجاهُلها ، مرت بمواقف كادت أن تفتك بها ولكن نجت منها، ألن تكون قادرة على تجاوز ذلك؟ أحست رغد بهالة من الطمأنينة تحيط بها، وكأنه يوجد ملاك يرفرف حول روحها ويحميها من الكسر مرة أخرى. ظهرت على المسرح للإجابة على الأسئلة وتحدثت بلا توقف ومما زاد كلامها جمالًا لثغتها، ذلك العيب الذي يتحدى الكمال.

ما تراكمت إلا لتمطر، كلام رغد المخبئ وحروفها التي كانت حبيسة أصابعها، أمطرا. اُعلنت النتائج ولم تفز ، في نظرها تلك التجربة كانت تذكرة عبور لأعالي السماء لم تهتم بمركز أو جائزة، لازالت منتشية من فرحتها فالحياة في نظرها ليست مباراة كرة قدم الثاني أو الثالث يعني الهزيمة! رغد ممتنة للمواقف التي دفعتها للكتابة حتى لو كانت حزينة، ممتنة للكتابة لإعادتها لشخصها لقديم بعد أن كان في عداد المفقودين . الفن والكتابة حياة أخرى لها، دماغها ذو ألوان متعددة وأصابعها مثل أصابع البيانو ومخيلتها نغمات موسيقية لعازف مُشرد.
شخصية رغد القديمة وموهبتها وأستاذتها وصديقتها وفشلها في تخصصها ومن ثم مشاركتها في المسابقة، كل هذا السيناريو كان مُعد بطريقة مدهشة لتلاقي رغد نفسها.


"النهاية"












تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مرتبة الشغف (الجزء الثاني)

كيف تطور من مهارة التحدث؟

كيف تتعلم اللغة الإنجليزية بطريقة صحيحة وأكاديمية